• !

الاشتراك فى القائمة البريدية

محسن الجدعاني

مقالة: ٤٧- إخراج المؤذن صوته بالإقامة، والإمام بالقراءة

بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد؛ فتعليقاً على الموضوع المطروح بشأن مشروعية إخراج المؤذن صوته بالإقامة، والإمام بالقراءة.

تحريراً لمحل النقاش في المسالة؛ يمكن أن يبين في النقاط التالية:

١- تقصد إخراج المؤذن أذانه خارج المسجد والتسنن بذلك؛ مشروع بلا شك ولا نقاش، خلافاً لصاحب الفتيا المغتصبة -كما سماها بكر أبو زيد رحمه الله في رده عليه- الذي قال بمنع الإزعاج بالأذان في الوقت الذي لم يمنع ضرب النواقيس فوق الكنائس في جوف الليل!!! عياذا بالله.
وأما الإقامة؛ فلا تلحق بالأذان فيما سبق، لكون المقيم كان في العهد النبوي يقيم ببطن المسجد، ولا يرقى على سطحه كما يفعل في الأذان.

٢- خروج صوت المؤذن في الإقامة، وصوت الإمام في القراءة خارج المسجد بلا تقصد -أي بغير مكبرات-؛ جائز بلا شك، ولا ينبغي أن يكون فيه نقاش، لكونه من موارد النقول كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فلو خرج صوت المؤذن في الإقامة، وصوت الإمام في القراءة بلا تقصد ولو باستعمال المكبرات الداخلية دون الخارجية؛ لم يسغ إنكار ذلك لذاته، لكون نظيره من موارد النقول.

٣- تقصد إخراج صوت المؤذن في الإقامة، وصوت الإمام في القراءة خارج المسجد بالمكبرات الخارجية بلا تسنن؛ فهذا محل الخلاف بين أهل العلم على القولين المشهورين:

الأول: المنع، وعليه الألباني، وشيخنا -رحمهما الله-، وبه صدرت فتيا عن اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز رحمه الله عام ١٤٠٨ هج، وقد شهدت شيخنا -العثيمين رحمه الله- سنينَ يمنع إخراج الصوت في الإقامة والصلاة أجمع خارج جامعه بالمكبرات الخارجية، وينهى عنه في دروسه، وكانت مكبرات الصوت عنده في الصلوات تُقصَر على الداخلية فقط، سوى الجمعة والكسوف في المسجد، وسوى الاستسقاء بالمصلى؛ فكانت تُشغَّل الخارجيةُ في خطبتها وصلاتها، ولم أشهد معه العيدين وأظنهما كالاستسقاء.

الثاني: المشروعية، وعليه بكر أبو زيد، وبالغ في القول بالاستحباب، وعد نشر الصوت بالمكبرات الخارجية في الإقامة والقراءة على الوجه الذي هو في الأذان! وفيه نظر.

ولعل الأصح في ذلك هو جواز إخراج المؤذن صوته بالإقامة والإمامِ صوتَه بالقراءة في الصلاة خارج المسجد بالمكبرات الخارجية شريطة عدم إيذاء أهل البيوت بالجهر وعدم التشويش على أهل المساجد الأخرى بالقراءة، ولعل هذا قول وسط بين قول من ينكر خروج صوت المقيم والإمام ولو بلا تقصد وتحرٍ لإخراجه خارج المسجد، لورود النقل الثابت مرفوعاً وموقوفاً بأصله كما سيأتي، وبين من يقول بمشروعية ذلك، ويعد خروجه من إظهار الشعيرة وأن عدمه تقصير فيها-.
فمما يدل على ذلك ما يلي:

أما في الإقامة؛ فمن ذلك:
١- خبر أبي هريرة في الصحيحين، ولكن موطن الشاهد من أفراد البخاري: "إذا سمعتم الإقامة... ".

٢- خبر ابن عمر في الموطأ بسند صحيح عَنْ نَافِعٍ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَمِعَ الْإِقَامَةَ وَهُوَ بِالْبَقِيعِ، فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ.

٣- خبر ابن عمر عند أحمد وأبي داوود أنه قال: (فَإِذَا سَمِعْنَا الْإِقَامَةَ تَوَضَّأْنَا ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الصَّلَاةِ). وحسنه الألباني وقوى سنده شعيب.

وأما في قراءة الإمام؛ فما يلي:
١- حديث جبير بن مطعم في البخاري أنه قال: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآية.... كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ).
ولا يعلم كون جبير وقتها داخل المسجد إلا بلفظ أخرجه أحمد بسند ضعيف، وقد ذكر ابن رجب في فتح الباري أنه رُوي أنه كان خارجه، فإن صح اللفظ الذي ذكر ابن رجب؛ فهو دليل، وإلا؛ ففيما يلي كفاية.

٢- خبر ابن عمر عند البخاري أنه كَان يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ، وَتُقَامُ الصَّلَاةُ، فَلَا يَأْتِيهَا حَتَّى يَفْرُغَ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ.

٣- خبر عباد بن بشر عند البخاري لما كان يصلي الليل بالمسجد فسمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قراءته وهو ببيت عائشة.

٤- خبر عمر في الموطأ بسند صحيح عَنْ مالك عن عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا نَسْمَعُ قِرَاءَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِنْدَ دَارِ أَبِي جَهْمٍ بِالْبَلَاطِ.

وهذا الوارد في الإقامة والقراءة لا يظهر من الأدلة حثُّ الشرع على الإخراج والإسماع، وإنما فيه إثبات خروج الصوت فيهما، بخلاف الأذان؛ ففي فضل نشره ومد الصوت به من الأدلة جملةٌ، لم يرد شيء منها في الإقامة أو قراءة الإمام، مما يدل على الفرق.

* إذن؛ فلا بد من التفريق بين مجرد خروج الصوت بلا تقصد، وبين إخراج الصوت بتقصد.

* كما أنه لا بد من التفريق بين التسنن بإخراج الصوت -كما في الأذان-، وبين تقصد إخراج الصوت بلا تسنن -كما هو محل النقاش-، فيكون في ذاته من قبيل المباح، الذي قد يستحب لما يترتب عليه من المصالح أو يمنع لما يترتب عليه من المطالح.

خاتمة:
ولما كان الشأن من متعلَّقِ أمر العامة وافتُقِر فيه إلى أمر مطاع، ليصدر الناس فيه عن رأي واحد، فمِن متضجر من رفع صوت مكبرات بعض المساجد على وجه يتشوش بعضها ببعض، وربما تأذى بعض أهل البيوت في بيوتهم، ومن مؤيد لرفع الصوت؛ كان ذلك داعياً من الدواعي لصدور ما صدر من قرار بإغلاق مكبرات الصوت وقت الصلاة، لما سبق ذكره من التشويش أو الإيذاء، دون الإقامة لقصرها ولمصلحة التنبيه بها على حلول وقت أداء الصلاة.

فإن قيل: كيف يُتَشَوشُ بذكر الله ويُتأذى به؟
فالجواب: قد قال ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونهى عنه، كما جاء في أخبار، منها:
١- روى أحمد وأبو داوود عن أبي سعيد الخدري قال: (اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السِّتْرَ وَقَالَ : " أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ ". أَوْ قَالَ : " فِي الصَّلَاةِ"). وصححه الألباني وقال شعيب: إسناده صحيح على شرط الشيخين، ومثله:

٢- روى أحمد عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ وَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ : " أَمَا إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَعْلَمْ أَحَدُكُمْ مَا يُنَاجِي رَبَّهُ، وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ")، وصحح سنده شعيب.

٣- روى مالك عن عبد الله بن جابر الْبَيَاضِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَقَدْ عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ : "إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ بِهِ، وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ")، وسنده صحيح.

مقترح:
ولو أنه جمع بين مصلحة إسماع من أحب التنَبُّهَ للصلاة بالإقامة وأحبّ سماعَ قراءةِ الأئمة في الصلاة، وبين مصلحة عدم التشويش والإيذاء باتخاذ مكبرات صوت خارجية خاصة بالإقامة والقراءة ونحوهما كالخطب وتضبط على مستوى صوت التنبيه والإسماع بغير تشويش وإزعاج، فلعل ذلك يكون أوفق، وبالنفع أحق.
وأما الدروس والمحاضرات والكلمات ونحو ذلك؛ فهذا يخضع لمدى ما يترتب على إذاعتها بالمكبرات الخارجية بنحو ما سبق في القراءة من حاجة الناس ورغبتهم أو تشوشهم وتأذيهم، ومتى اجتمعا؛ فدرء المطالح مقدم على جلب المصالح، والله الموفق.

كتبه/ فؤاد بن بشر الكريم الجهني.
١٤٤٢/١٠/١٥ هج.
 0  0  1651