مقال ٥٤- مسألة التفريق بين المسلم الوليد والمسلم الجديد
الحمدلله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما بعد فإن من الناس ممن يكونون في بعض البلاد التي فيها أخلاط مسلمين ومشركين، ثم المسلمون منهم من ولدوا في الإسلام، ومنهم من استجد إسلامه بعد كفره، قد ينتشر فيما بينهم التفريق بين المسلم الوليد والمسلم الجديد، فالمسلم الوليد الذي ولد في الإسلام، والمسلم الجديد الذي استجد إسلامه بعد كفره، فيشعر المسلم الذي ولد في الإسلام أن له فضلًا على أخيه المسلم الذي استجد إسلامه بعد كفره، وربما لقَّبه بالمسلم المستجد، أو حديث الإسلام، أو جديد الإسلام، أو المسلم المهتدي، أو غير ذلك من الألقاب التي تفيد أن هذا لم يولد في الإسلام، إنما استجد إسلامه، وهذا من حيث اللقب اللغوي المحض صحيح لا إشكال فيه، لأنه عين الإخبار بالواقع، ولكن إذا كان ينبني على هذا التلقيب التفرقة المعنوية الحقيقية، فربما يُفضل الأول على الثاني، والسابق على اللاحق في الجملة، فليس لهذا العمل أصل في الشرع، بل إنه كم من مسلم مستجد يكون خيرًا من مسلم ولد في الإسلام وله أبوان مسلمان وترعرع في الإسلام، ولنا من المثال الواقعي الحقيقي واقع الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فإن الصحابة الكرام منهم من ولد في الإسلام ولم يعرف الكفر قط، ومنهم من استجد إسلامه بعد كفره، ونخب كثير وجم غفير من الصحابة الذين استجد إسلامهم بعد كفرهم نفع الله بهم الإسلام مالم ينفع نظيره من الصحابة الكرام الذين ولدوا في الإسلام، ولم يعرفوا الكفر قط. فهاهم الصحابة الكرام السابقون كلهم أجمعون لم يكونوا على ملة الإسلام بدءًا من أبي بكر، فكان أول الرجال الذي أسلموا وآمنوا برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو أصدقهم وأخيرهم وأعظمهم، وكونه أول من أسلم معنى ذلك أنه كان كافرًا ثم في الفضل عمر ثم عثمان ثم علي، هؤلاء الصحابة الفضلاء كانوا ممن استجد إسلامه، ومع ذلك نفع الله بهم، بل إنهم أخير الأمة بإجماع أهل السنة بعد نبيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كانوا خيرًا من كل الصحابة الذين ولدوا في الإسلام، ولم يعرفوا الكفر قط، والله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِذا ضَرَبتُم في سَبيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنوا وَلا تَقولوا لِمَن أَلقى إِلَيكُمُ السَّلامَ لَستَ مُؤمِنًا تَبتَغونَ عَرَضَ الحَياةِ الدُّنيا فَعِندَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثيرَةٌ كَذلِكَ كُنتُم مِن قَبلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيكُم فَتَبَيَّنوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعمَلونَ خَبيرًا﴾، فلا يمتن إنسان بإسلامه على أخيه، لكونه سبق إليه، إياه وهذا العمل فإن الذي يمن علي غيره بإسلامه هذا فيه نوع منْ على الله عز وجل، وقد قال تبارك وتعالى ﴿يَمُنّونَ عَلَيكَ أَن أَسلَموا قُل لا تَمُنّوا عَلَيَّ إِسلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيكُم أَن هَداكُم لِلإيمانِ إِن كُنتُم صادِقينَ﴾ فالله تبارك وتعالى هو الذي له المنة بأسلمة المسلم منا، وليس لأحدنا فضل بإسلامه على أحد عامة أو على الله خاصة، فإنما ذلك طبع الأعراب الأجلاف الذين أخبر الله عز وجل عن شأنهم في أواخر سورة الحجرات، وقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليبين كون المسلمين سواءاً، سواءٌ كانوا مستجدين أم كانوا مسلمين أصليين بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تساوي ذمة هؤلاء وهؤلاء كما جاء عند البخاري في صحيحه موصولا عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال ( ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ) ذمة المسلمين أي عهد المسلمين، ووفاء المسلمين ووعد المسلمين والتزام المسلمين واحدة إذا عاهد أصغر القوم منهم ممن يصح عهده وألتزم أقلهم منزلة فإن هذا العهد ماض كعهد أعظمهم وأكبرهم، وجاء عند أبي داود في السنن من مسند أنس رضي الله عنه وقال بثبوته الألباني وغيره عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ يَسْتَقْبِلُوا قِبْلَتَنَا، وَأَنْ يَأْكُلُوا ذَبِيحَتَنَا، وَأَنْ يُصَلُّوا صَلَاتَنَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا ؛ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ) يعني من استجد إسلامه له ما للمسلمين القدماء وعليه ما على المسلمين القدماء على حد سواء، وفي لفظ عند البخاري معلقًا عن أنس موقوفًا عليه من قول أنس أنه قال مثل هذا الحديث إلا أنه قال (مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَصَلَّى صَلَاتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ، لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ) ولذلك أنصح إخوتي في الله الذين منَّ الله عليهم بالإسلام أصالةً ولم يتجرعوا مرارة الكفر يومًا أن لا يميزوا بينهم وبين إخوانهم الذين استجد إسلامهم، بل والله إن من المستجدين من قد يكون أفضل من المسلمين أصالةً لشدة صدقهم وودعهم لما كانوا هم عليه مرضاةً لله وإخلاصًا له وإقبالًا عليه، ولا يخفى عليكم ما جاء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الصحيح أنه قال( ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ ؛ الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْأَمَةُ، فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا، وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ أَدَبَهَا، ثُمَّ يُعْتِقُهَا فَيَتَزَوَّجُهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَالْعَبْدُ الَّذِي يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ ) لما أدرك دين موسى أو عيسى أسلم به ثم لما جاءت شريعة الإسلام وخوطبوا بها انتقلوا للإسلام المحمدي فهم يؤتون أجرهم مرتين، يعني أكثر من أجر الذي أدرك الملة المحمدية والشريعة النبوية المحمدية بمرتين، مرة كونه أسلم بما سبق، ومرة بكونه أسلم بما لحق، اسأل الله الحي القيوم أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يجمع كلمتهم على التوحيد والسنة، وأن يرينا وإياهم الحق حقًا ويرزقنا إتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله وبارك على رسول الله الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. فؤاد بن بشرالكريم الجهني ١٤٤٣/٣/٢ هج. | ||