مقالة: ٢٧- تكفير المصيبة لذنوب المصاب يقع بمجرد المصيبة
بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد؛ فالقول بأن تكفير المصيبة لذنوب المصاب يقع بمجرد المصيبة هو أصح قولي أهل العلم، وظاهر النصوص يدل عليه، كحديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا) رواه البخاري ومسلم، وليس معناه عدم وجوب الصبر، وإنما معناه أن تكفير المصيبة لذنوب المصاب يقع بمجرد المصيبة فإن صبر أجر أجراً آخر، وإن جزع أثم على جزعه. والقول بأن التكفير يقع بمجرد المصيبة تعليله واضح، وتصوره قريب: أما تعليله؛ فلأن المصيبة قد تكون نوع عذاب وتعجيلا لبعض العقوبة في الدنيا كما يدل عليه حديث الحمى، فلا يجمع على المصاب عقوبتان -دنيوية وأخروية-. وأما تصوره القريب؛ فكم من مصاب لا يتمكن من امتثال نصوص أمره بالصبر لانقطاع خطابه بالصبر مع حلول المصيبة إما بموته وإما بدخوله في غيبوبة ونحو ذلك. فتبين أن المصيبة بالفعل بمجردها قد يكفر الله بها الذنوب. وهل مجرد المصيبة يكتب لصاحبها بها حسنات كما تكفر له بها السيئات، أو لا؟ خلاف والأصح: نعم، لظاهر بعض الأحاديث كحديث عَائِشَةَ قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ حَتَّى الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ - إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ). وتتميما للفائدة وتثبيتا لما سبق فهذا نقل لكلام العسقلاني في الفتح: (ووقع في رواية ابن حبان المذكورة: " إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه بها خطيئة ". ومثله لمسلم من طريق الأسود عن عائشة، وهذا يقتضي حصول الأمرين معا: حصول الثواب، ورفع العقاب. وشاهده ما أخرجه الطبراني في " الأوسط " من وجه آخر عن عائشة بلفظ: " ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله به عنه خطيئة، وكتب له حسنة، ورفع له درجة "، وسنده جيد، وأما ما أخرجه مسلم أيضا من طريق عمرة عنها: " إلا كتب الله له بها حسنة، أو حط بها خطيئة "، كذا وقع فيه بلفظ " أو "، فيحتمل أن يكون شكا من الراوي، ويحتمل التنويع، وهذا أوجه، ويكون المعنى: إلا كتب الله له بها حسنة إن لم يكن عليه خطايا، أو حط عنه خطايا إن كان له خطايا. وعلى هذا فمقتضى الأول أن من ليست عليه خطيئة يزاد في رفع درجته بقدر ذلك، والفضل واسع. تنبيه: وقع لهذا الحديث سبب أخرجه أحمد، وصححه أبو عوانة والحاكم من طريق عبد الرحمن بن شيبة العبدري: "أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وجع، فجعل يتقلب على فراشه ويشتكي، فقالت له عائشة: لو صنع هذا بعضنا لوجدت عليه، فقال: إن الصالحين يشدد عليهم، وإنه لا يصيب المؤمن نكبة شوكة ..." الحديث، وفي هذا الحديث تعقب على الشيخ عز الدين بن عبد السلام حيث قال: ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور، وهو خطأ صريح؛ فإن الثواب والعقاب إنما هو على الكسب، والمصائب ليست منها، بل الأجر على الصبر والرضا. ووجه التعقب أن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر، بمجرد حصول المصيبة، وأما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليهما زيادة على ثواب المصيبة، قال القرافي: المصائب كفارات جزما سواء اقترن بها الرضا أم لا، لكن إن اقترن بها الرضا عظم التكفير وإلا قل. كذا قال، والتحقيق: أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها، وبالرضا يؤجر على ذلك، فإن لم يكن للمصاب ذنب عوض عن ذلك من الثواب بما يوازيه). ثم ذكر العسقلاني مسألة أخرى تعقب فيها القرافي، فقال: (وزعم القرافي أنه لا يجوز لأحد أن يقول للمصاب: جعل الله هذه المصيبة كفارة لذنبك؛ لأن الشارع قد جعلها كفارة، فسؤال التكفير طلب لتحصيل الحاصل، وهو إساءة أدب على الشارع. كذا قال، وتعقب بما ورد من جواز الدعاء بما هو واقع كالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة له. وأجيب عنه بأن الكلام فيما لم يرد فيه شيء، وأما ما ورد فهو مشروع؛ ليثاب من امتثل الأمر فيه على ذلك). وكلام العسقلاني واضح وتعقبه وجيه، والله ولي التوفيق. كتبه/ فؤاد بن بشر الكريم الجهني ١٤٣٩/٣/٢٩هج. | ||